فناء العمارة: إمكاناتٌ جديدة للحياة
المعماري والباحث: ليث متاروه
الشكل01 . صورة فوتوغرافية لصحراءٍ في الكرك، على بعد 30 كم شمال شرق وسط مدينة الكرك. تظهر الصورة الطبيعة الجرداء التي تم جمع الحجارة منها لبناء القرى المجاورة. هنا نرى الحجارة المتناثرة، مجردة، بلا نفعية، قبل توظيفها لتكوين بناء حاضنٍ للحياة. تم التقاط الصورة في تاريخ 03/03/2019، على بعد 10 دقائق من قريتي حمود والسماكية المجاورة.
في امتداداتِ الوديان القاحلةِ في محافظة الكرك في الأردن، تظهر قريتا السماكية وحمود متناغمتانِ بتجانسٍ مع سياقِ المكان، حيث بالكاد يمكن ملاحظتهما من مسافةٍ بعيدة؛ تبدوان بتكتيلاتٍ مكعبةٍ تنأى عن بدعةِ التشكيلات المعمارية الحديثة. نراهما مهجورتينِ ومتداعيتينِ جارت عليهما الحياة التي لا يمكن التنبؤ بأقدارها. ما بدأ كبحثٍ في العمارة (التقليدية) الأردنية سرعان ما تحولّ إلى بحثٍ في مظاهر غياب الحياة. في أطلالِ هذه العمارة لم أجد فقط ما كنت أبحث عنه، بل بين بقايا المساكن المتناثرة المكوّنة من طابقٍ وغرفٍ أحادية قرأتُ مذكراتٍ كتبتها القريتان؛ همست عمارة هذه البيوت: “مرحباً! نحن ندرك ما يجول حولنا، اقترب فلدينا بعضُ القصصِ لنرويها”. بينما تراكمت لدى هذه البيوت الخسارة والتشققات، إلا أن حياتها الطويلة حفظت قصصًا، فكانت لأنقاضِ بيوت كل قريةٍ حكاياتٌ ترويها. تبدأ العمارة، سواء كانت كبيرةً أو متواضعة من مثلِ قطعِ هذه الأنقاض، ولكن فقط عندما تحولّت إلى بقايا وعندما تمّ اختبار تلك الأنقاض بشكل مباشر، كنتُ قادرًا على استيعاب مدى صغر العمارة ومدى العظمة التي يمكن أن تصبح عليها. في حضور هذه البقايا المتناثرة لم أكن باحثاً معمارياً ولم أسعى لأن أكون باحثاً: ما كنت سوى شخصاً تواضعَ أمامَ الذكريات المخزنة لحيواتٍ رحلت منذ زمنٍ بعيد.
تقعُ القريتانِ شمال شرق مركز محافظة الكرك، وكلاهما يقطُنهما غالبيةٌ مسيحيةٌ من عشيرة الهلسة في قرية الحمود، وعشائر الحجازين، والعكشة، والبوالصة والنصراوين، والمساعده، والزيادين في قرية السماكية. وتشتهر أراضي القريتين بتضاريسها الوعرةِ القاسية، فهي في الغالبِ قاحلةٌ، تحتوي على القليل من الأتربة الخصبة، وكلاهما تقعان على حوافِ أودية. كما ويتمتع موقعهما بأهميةٍ فريدةٍ لكونه على الحدِّ الانتقاليِ ما بين أراضٍ زراعيةٍ شبهِ بدوية إلى أراضٍ بدويةٍ بحتة، كما وأنّ عمارتها التي يعود تاريخها إلى أواخرِ القرنِ التاسع عشر وأوائل القرن العشرين تمثّلُ أيضاً نقطةَ تحولٍّ من عمارةِ الخيمةِ البدوية نحو عمارةِ البناءِ الحجريِ البدائية التي تشتهرُ باستخدامِ البازلت والحجرِ الجيري المُستخرج من الوديانِ القريبة والتي كانت بمثابةِ مقلعٍ طبيعي 1، فلا تبدو عمارتهما دخيلةً، بل عمارةٌ اشتُقّت من السياق المكاني بشكلٍ غريزيٍ مباشر.
الشكل 02. صورة من أحد الأودية المطلة على قرية السماكية. في هذه الصورة نرى القرية وهي تقع على حافة الوادي، كما نرى كيف لا يزال نمط الحياة البدوية موجودًا، حيث الخيام البيضاء التي يسكنها بدو من عشيرة العزازمة على أطراف القرية، ليستقرون هناك خلال موسم الشتاء بحثًا عن الدفء. تم التقاط الصورة في تاريخ 15/05/2020.
الشكل 03. صورة لقرية الحمود مأخوذة من قاع الوادي المطلة عليه. عمارة قرية حمود أكثر تماسكاً مقارنة بعمارة السماكية فتبدو وكأنها بناء واحد. تم التقاط الصورة في تاريخ 15/05/2020
مع ظهور أساليبِ البناءِ الجديدةِ نسبياً، ابتعدَ النسيجُ الجديدُ للقرى عن النموذجِ الأصلي، كما هو الحالُ في العديدِ من القرى الأخرى في الأردن، ليصبحَ خرسانيًا رماديًا أو أبيضَ اللونِ في مظهره. وقد تبع هذا التغيّرُ في النمطِ المعماريِ الابتعادَ عن النمطِ الزراعيِ للمعيشة: من الزراعةِ ورعي الماشية، إلى نمطٍ معيشيٍ أكثرَ معاصرة. ويبدو للزائرِ أن حجم مساكنِ القرى بالكادِ يؤثرُ على تناغمِ التضاريس الطبيعية الكامنة بالموقع ولكنه يُكمّلها، حيث تنحدرُ المساكنُ المكعبة بلطفٍ لتتبعَ تدرجاتِ الوادي.
الشكل 04. نظرة أقرب على قرية السماكية توضح التحولات التي شهدتها عبر الزمن. أجزاؤها الأقدم والأدنى تتحلل وتعود إلى مهدها، إلى الوادي. ويمكن ملاحظة النسيج الحديث بعمارته الخرسانية المتباينة باللون الأبيض والرمادي. تم التقاط الصورة في تاريخ 15/05/2020
عند النظرِ إلى هذه القرى، يُفاجىء المرءُ بما يمكنُ للعمارةِ فعله، فهي لا تكشفُ عن الزمنِ فحسب، بل إِنها تُحددُ المكان أيضًا، وتدفعنا إلى إدراك المقياس (الحجم). في تلك المساحاتِ اللامتناهية من العراء، يُمكنُ لأي شيءٍ إمّا أن يكونَ كبيراً عظيماً أو صغيراً متواضعاً، فالمقياسُ هنا نسبيٌ. العمارةُ، مهما كانت متواضعةً، هي أداةٌ تُعززّ تطوّرَ أحداثِ الحياة؛ وكلما امتدت عبر الزمن، كلما امتلأت بذكرياتِ أولئك الذين سكنوها.
الشكل05 . صورة توضح كيف تنحدر البيوت المكعبة في قرية السماكية مع تضاريس الموقع. مثل هذا الحوار مع المكان سمح بتكوين بنية متناغمة للقرية مع المكان. تم التقاط الصورة في تاريخ 15/05/2020
أرى في هذه القرى بيوتاً، بالحال الذي هي عليه الآن من الصعبِ جدًا فهمُ كيف كانت مأهولةً بالسكان يوماً ما، لكن ولكوني معمارياً شعرتُ أن من واجبي فهمَ إمكاناتِ الحياةِ التي وُجِدت فيها فيما مضى. وبقدرِ صعوبةِ تصورِ مسارِ حياةِ العمارةِ لافتقارها العناصر الحية، فإننا نبني من الأطلالِ والآثار وأجزائها المتناثرة تصوّراً للكل. تبدو هذه المساكن كما هي الآن ميتةً، وكأنها الفصلُ الأخيرُ من قصتها. لكن وبمجردِ أن اجتمعت أجزاءها مع قصص أولئك الذين سكنوها، لم تعد ضعيفةً متهالكةً بسببِ فنائها بل نهضت فخورةً بصمودها للآن؛ تصمد بدلالاتٍ معماريةٍ مختلفةٍ، عاطفيةٍ محمّلةٍ بالذكريات. هذه الدلالات ظهرت بالحديث مع أحد أقاربي، السيد خالد حجازين، أحد معاصري الحياة التي قطنت ذات يوم بيوت سماكية. كنت حذرًا بالطريقةِ التي كنتُ أُدير بها الحديث؛ وبصفتي معماريًا، فإن مفرداتي الغريزيةَ معماريةٌ وعاطفية. أردتُ أن أستمع لرأي سكّان مثل هذهِ العمارة، ففي حين أن صياغاتنا، كمعماريين، مكانية وسياقية تصف البيئةَ الماديةَ المرئيةَ والغير مرئية للعمارة، فإن وسائل ومفردات السكان هي ببساطة قصصٌ وذكرياتٌ تصفُ الفضاءَ (الفراغ) وتفصلُّ تفاصيلهُ.
الشكل 06. صورة لقرية الحمود، فيها نرى تحاور العمارة مع الوديان المقابلة لها. تم التقاط الصورة في تاريخ 15/05/2020
السكانُ يدركون مدى صغرِ هذه المساكن، وربما يُعزى ذلك الأمر لأنهم يعيشون الآن نمطاً معيشياً معاصراً ومغايراً، حيث أصبحت منازلنا أكبرُ حجماً وأكثرَ راحةً. بالنسبة لهم، لم يكن الحجمُ عائقًا أبدًا، لكنني أكاد أجزم أنه بسببِ صغرِ مساحتها أصبحت الحياةُ والأنشطة أكثر تركيزًا في فراغاتها الصغيرةِ المحصورةِ مكانيًا وغدت ذكرياتها أكثر تشابكاً ببعضها البعض. تنوّعت ذكرياتُ السكانِ عن فراغاتِ هذه المساكنِ عبر مجموعةٍ من المناسبات، بعضها أحداث يومية، كمجردِ العودةِ من المدرسة، إلى بعضِ المناسباتِ التي لا تُنسى، كانت مناسباتُ فرحٍ أم ترح. كانت العمارةُ، التي تَجسدَّت في مساحةٍ أحاديةٍ حاويةٍ للحياة، الوسيلةَ التي دعمت هذه الحياة وشكّلت ذكرياتها. كانت العمارةُ هي المساحةُ حيث تتجمّعُ فيها الأسر لتغميس خبز الطابون في الشاي الحلو خلال مواسم الجفاف؛ كانت العمارةُ هي المساحةُ المليئةُ بالدخان حيث تجلس العائلة حول الموقدِ المحفورِ في الأرضِ للدفء في الشتاء؛ وكانت المكانُ الذي يتم فيه تخزينُ محاصيلِ القمحِ والشعير، وحيث يتم إدخالُ الماشيةِ لحمايتها من بردِ الشتاء. كانت العمارةُ هي المكانُ حيث يجتمع فيه الضيوف لحضور احتفالات الزفاف التي عادةً ما كانت تستمر لأكثرِ من أسبوعٍ، وتُجمّعُ الأقارب في مناسباتِ الحزنِ كبيوتِ عزاء، وإن لم يكن الفراغ كافياً، فقد كان يُفتحُ على الحوش أو يمتد متسعاً باقترانهِ بفراغات المنازلِ المجاورةِ.
الشكل 07. واجهة معمارية حالية لأحد مساكن قرية السماكية
لهذا السبب فإنّ العمارةَ والناس وعواطفهم وذكرياتهم وحتى أشيائهم ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بشكلٍ عضويٍ في هذا الحيز الفراغي. ولكن، إلى أي مدىً يمكن أن يكون الفراغُ مُحمّلاً بعواطفِ وذكرياتِ قاطنيه عندما يكونُ مُقيداً بمحدوديةِ حيزهِ الفراغي؟ من وجهة نظري، لقد جعل هذا السكان أكثر تقارباً، جسديًا وعاطفيًا، ببعضهم البعض. فعندما تختزل العمارةُ في غرفةٍ واحدة، فإنّها تصبحُ مسرحاً للعناصر الحيةِ واللاحيةِ من بشرٍ وماشيةٍ وأشياء ومحاصيل وجلساتٍ حول النار. جميعهم يملؤون الفراغَ بالوظيفيةِ والحياة، فيزدادُ زخمُ الذكرياتِ في هذا الفراغ الأحادي الواحد.
الشكل 08. مقطع عرضي لأحد بيوت قرية السماكية يظهر فيها كمسرح للحياة وفعالياتها المختلفة
الشكل 09. مخطط الطابق الأرضي لأحد البيوت في قرية السماكية
إن هذا التجاورَ المُتجسّدَ داخلَ مساكن تلك القُرى، أو ما يُمكن تسميته “بالألفةِ المكانيةِ” بين السكّانِ وفراغاتهم، يمتدُّ إلى النسيجِِ المعماريِ للقرى ليصبحَ بين المبنى وشقيقه المبنى، ليشكلَّ نسيجًا واحداً للقرية، فتكاد تُرى وكأنها عمارة واحدة، وفي نفس الوقت تبدو القرية وكأنها امتداد للمشهد الطبيعي الذي يحتضنها. لقد نمت البيوت لتتشابك مع بعضها البعض، بحيث شكلّت شبكاتٍ في كلِّ اتجاهٍ. كلُّ بيتٍ ممتدٌ حسبَ حاجة السُكّان الخاصةِ للتوّسع، ومُمتدٌّ بعلاقةٍ مع العمائرِ المجاورةِ له، وكأنه يشكّلُ نظاماً من ردودِ الفعلِ المتبادلةِ والتي تُحاورُ بعضها البعض. وبما أن البيوتَ فُرادى بُنيت من تراكباتٍ صغيرةٍ من الحجارةِ المثبتةِ فوقَ بعضها البعض، فإنّ القريةَ عبارةٌ عن تراكمٍ لتراكباتِ هذه البيوت المتضامةِ بينَ بعضها. والنتيجةُ هي عمارةٌ مُتّحدةٌ واحدةٌ، اعتاد الشابُ خالد فيها القفزَ مع أقرانهِ من سطحٍ إلى آخر وكأنها ملعبٌ كبيرٌ واحد.
الشكل 10. صورة جوية تبين النسيج القديم من قرية السماكية. تم التقاط الصورة في تاريخ 21/07/2019 من قبل الطيار حسام المساعدة
الشكل 11. صورة لقرية الحمود فيها تظهر كجسدٍ معماري واحد متماسك متحدٍ مع سياقه والطبيعة من حوله. تم التقاط الصورة في تاريخ 15/05/2020
لقد تمَّ إعادة فهم “الحياةِ” في تلك القُرى المُدمَّرة من خلالِ سردِ قصصِ أولئك الذين سكنوها، لكن كما هي الآن، تظلُّ أنقاضها دليلاً واضحًا على المواجهةِ التراجيدية بين عمارتها والزمن، فيتصارعُ كلٌ منهم للفوزِ بمعركةِ الديمومةِ اللاحتمية. العمارةُ، أو بالأحرى ما تبقى منها، هي دليلٌ على صمودها على مرِّ الزمان، فوجودها كأطلالٍ، وحتى خسارتها، دليلٌ على معركتها المنتصرةِ على الزمن. نرى في صمودها كيف يدّعي كل منهما التأثيرَ على الآخر؛ فبينما تصمدُ القريةُ بأطلالها، نرى الزمنَ يستعيدُ العمارةَ، وكيف تستعيدُ الوديانُ حِجارتها، أشبهُ بساعةٍ رملية: الحجارةُ هي الرملُ الذي به نرى الوقت يمضي. في الخسارةِ، تتخذ بقايا العمارةِ صفاتاً مختلفةً في فهمِ غيابِ الأشياءِ التي كانت موجودةً ذاتَ يوم، وفهمَ البداياتِ والنهايات. في أنقاضِ العمارةِ الميتة، نُدركُ منطقَ العمارة؛ عندما يتم تفكيكها نقتربُ من كيفيةِ تجميعِ الكل وتفكيكه. حينها، في الموتِ تظهرُ مفاهيمُ جديدة.
الشكل 12. صورة لمنزل مهجور في قرية حمود. تم التقاط الصورة في تاريخ 03/03/2019
الشكل 12. صورة لمنزل مهجور في قرية حمود. تم التقاط الصورة في تاريخ 03/03/201
الشكل 13. نظرة عن كثب على مادة البناء المساكن في قرية السماكية. في هذه الصورة، نرى مزيجًا من نوعين مختلفين من الحجارة، الحجارة الجيرية والبازلتية، ونرى أيضًا فتحة تهوية صغيرة في أعلى المساحة الداخلية. تم التقاط الصورة في تاريخ 03/03/2019
الشكل 14. صورة لمنزلين مهجورين في قرية السماكية. هنا يرى المرء الكيفية التي تم بها بناء هذين المنزلين، بالتفصيل، من خلال تركيب الحجارة حجراً فوق حجر. نما المنزل ليصبح مدماك وراء المدماك بكل سلاسة ويُسرٍ. علاوة على ذلك، مع حالته المتدهورة، لا يزال يحتفظ بعناصره الإنشائية الرئيسية متكاملة. تم التقاط الصورة في تاريخ 03/03/2019
الشكل 15. نظرة أقرب على أحد المساكن المهجورة في السماكية. في هذه الصورة، نرى ثلاث طبقات مختلفة تشكل الجدار الخارجي، وكيف يتصل هيكل السقف بالجدران الخارجية. تم التقاط الصورة في تاريخ 03/03/2019
الشكل16 . نظرة أقرب على الطبقات الإنشائية التي يتكون منها السقف. في هذه الصورة، نرى كيف تحمل القنطرة السقف وأحمالهُ. تم التقاط الصورة في تاريخ 03/03/2019
في كتابه “السيرة الذاتية العلمية” (Scientific Autobiography)، يشرحُ المعماريُ الإيطالي ألدو روسي (Aldo Rossi) مفهومَ الموتِ والتغييرات التي يُحدثها على الجسدِ بطرحِ مثالِ لوحات “إنزال السيد المسيح من على الصليب”، والتي تم توضيحها في أعمالِ الفنّانيْن، الفلورنسي ‘روسو فيورنتينو’ (Rosso Fiorentino) والهولندي ‘روجير فان دير وايدن’ (Rogier van der Weyden). ففي لوحاتهم لا يتجلّى الموتُ فقط في اللونِ الشاحبِ للمسيح المتوفي، بل إنّ بُنيةَ جسده تتخذُ وضعيةً غير طبيعيةٍ، وهو ما أتاحَ تصوّرَ الإمكانياتِ الفيزيائيةِ الأُخرى للجسدِ 3. يتغيرُ التكوينُ الشكليُ لبُنية الجسدْ عندما يتمُ إفراغهُ من الحياة، فيصبحُ مسترخيًا، والعضلاتُ المشدودةُ ترتاح. العمارةُ أيضًا، عندما يتمُ إفراغها من الحياة، تتخذ تكوينًا شكليًا مختلفًا. تتدهور العمارةُ الميتةُ تدريجياً وببطءٍ مع مرورِ الزمن، تنهار الجدرانُ وتضيعُ بعضٌ من كتلها الحجرية. عندما تموتُ العمارة، فإنها تستسلمُ إلى مصيرها الحتميِ فتتخلّى عن واجباتها الإنشائيةِ والوظيفيةِ، كعبءِ المأوى، لم يعدّ عليها أن تتحدى الجاذبيةَ، وقوى الشد: من الأرض كانت وإلى الأرض تعود.
الشكل 17. لوحة “إنزال المسيح من على الصليب ” لروسو فيورنتينو، عام 1521
الشكل 18. لوحة “إنزال المسيح من على الصليب” لروجير فان دير وايدن، عام 1435
في كتابهِ “الشعور بالتاريخ” (Feeling History) يشرحُ المعماريُ بيتر زومثور (Peter Zumthor) كيف يمكنُ قراءةُ القصصِ التي تراكمت في خرائب العمارةِ وكيف يمكنُ لهذه أن تكون حقيقيةً وحتى مادية، وكيفَ تعودُ هذه البقايا للحياةِ عند تَفحُّصها وعندَ مقدرتنا قراءةَ تاريخِ المكانِ من خلالها 4. بدلاً من التعاملِ مع الخرائبِ باعتبارها نتيجةً للموت، والشقوقُ باعتبارها أعراضاً لجسدٍ مُتعب فلننظر إليها على أنها ندوبٌ لمعركةِ البقاءِ الرابحة. فالعمارةُ المدمرةُ ليست فقط تلك التي فقدت وسائلَ سكنها ففقدت ساكنيها، بل إنها أيضًا فقدت فعلياً بعضاً من أجزائها المادية المكونةِ لها. وعندما يتم إحياءُ ذكرى الفقدانِ، فإنّ استحضارها سوفَ يكونُ مشحوناً بمعانٍ صنعها الزمن، والتي لا يجرؤ أحدٌ على تزييفها.
الشكل 19. صورة لأحد المنازل الخاوية في قرية حمود. يأخذ وجود الحياة مظهراً مادياً في شكل وهيكل البناء. عندما تحتلّ الحياةُ البناء فإنها تجعله مليء ومكتملاً ومعرّفاً بوضوح. تحتل الحياة الفراغ المعماري بحدود واضحة تميزه عن خارجه. عندما تغيب الحياة عن العمارة وما فيها، تصبح العمارة خالية، وتصبح علاقتها مع الخارج مفتوحة، لا توجد حواجز ولا حدود؛ عندما يحتلّ الخلاء البناء يجعله مفتوحًا. ولكن عندما تكون العمارة ممتلئةً بالحياة، يتم وضع حد بين ما هو في الداخل وما هو في الخارج. لا يمكن “للخلاء” حينها أن يعبر من خلالها؛ ولا يمكن التفكير فيها كبناء غير مكتمل، أو قيد الإنشاء كما نراها حين تُهجر ويستوطنها “الخلاء”، فحينها لا يوجد ناس ولا حياة؛ لا نوافذ ولا أبواب تحدد علاقة الداخل بالخارج، فقط الجدران، والأعمدة التي بالكاد قائمة، والتي يمكن للمرء أن يستبيحها مروراً خلال النهار، وتكون متروكة مهجورة خلال الليل. في العتمة بالكاد تكون مرئية، بالكاد يمكن ملاحظتها. تمر عليها فصول السنة محولّة إياها إلى أطلال. إن تصور الحياة التي كانت يوماً مُعاشة هنا يكون من خلال ملاحظة البقايا المادية التي يمكن للمرء تتبعها وتصور الحياة التي كانت فيها يوماً ما، كيف كانت تُضاء ليلاً وكيف كانت تضجّ بالأصوات بالنهار! الحياة تُكمّل العمارة بشكل ملموس، بدلاً من أن تجعلها مبهمة. ما تبقى غير مكتمل، تكمله الحياة، وقد يُترك المرء ليتساءلَ عمّا إذا كان البناء مكتملاً عند لحظة الانتهاء من بنائه أصلاً؟ تجعله بشكلٍ ما حياً، بدلاً من إدراكه كميتٍ ومهجور. الحياة عندما تغيب تُرى وغيابها يجعل المبنى متحرراً ومتجرداً من صفته الوظيفية، ليتحلل لكينونته الأولى: حجارة من وإلى الطبيعة. تم التقاط الصورة في تاريخ 03/03/2019
ومع ظهور هذه الإمكانات الجماليةِ، الماديةِ منها واللامادية، يصبحُ من واجبِ المعماري المُطّلع أن يمتلكَ مثل هذه القدرةِ والحساسيةِ بدلاً من الاستسلام للحظةِ التراجيدية لفناءِ العمارة. إن ميلادَ العمارةِ يحملُ معهُ في طياتهِ نهايتها الحتمية. ومع ذلك، فبدلاً من أن يكون فناءها نهايةً لحياتها، وبدلًا من أن تكونَ العمارةُ شاهدًا صامتًا على مصيرها، يمكنُ للموتِ أن يتخذَ صفاتاً تخوّلهُ توضيحَ صمودِ وبقاءِ البناءِ، “الموت هنا هو الحافظ وكذلك المُدمِّر”. 5 وكأنّه يتم تحويلُ قلقِ المعماريين من موتِ البناءِ إلى مصدرٍ إبداعيٍ للخلودِ المعماري. العمارة المفرغةُ من الحياةِ هي تلك التي فقدت التزاماتها الوظيفية، لذلك عندما يتم إعادةُ إحيائها واستعادةُ قيمتها العاطفية، فلن تعودَ ميتةً. ولكن ما الذي يجعلُ العمارةَ جديرةً بلإحياءِ؟
إنّ الحياةَ وأحداثها وذكرياتها تظهرُ في أيّةِ مساحةٍ مأهولة، ومن المؤكد أن هذا لا يشكلُّ حُجّةً قويةً لإحياء أيةِ مساحةِ أصبحت متروكة، بغضِّ النظر عن استدامةِ خيارِ إعادةِ إحياءِ العمارة. ومع ذلك، فإنّ هذا السؤالَ تردد في مواجهتي مع هذهِ القرى على وجه التحديد، ومع أيةِ عمارةٍ ذاتِ خلفيةٍ مماثلة. لا تبدو هذه القرى مليئةً برواسبِ الحياةِ غير الماديةِ فحسب، بل وأيضًا بصفاتٍ ماديةٍ معماريةٍ أصبحت غريبةً عن الممارسةِ التصميميةِ الحالية، فهي مثالٌ على سلالةٍ منقرضةٍ من العمارةِ الأردنيةِ التقليدية، والحلولِ الغريزيةِ التي تم ربطها بدقةٍ لتتلاءمَ مع سياقِ المكان، في الوقتِ الذي في عصرنا تبدو فيهِ كلُّ الحلولِ مستوردةً ومناسبةً لجميعِ السياقاتِ، خاصةً كانت أم عامة. وعلاوةً على ذلك، فإنها تظلُّ بمثابةِ تذكيرٍ بإنسانيةِ تلك العمارة، سواءً من حيثِ الحجمِ (المقياس) أو في علاقتها بالسكان، في الوقت الذي تحيط بنا حالياً إنشاءاتٌ خرسانيةٌ ضخمةٌ، مكعبةٌ مستنسخة. كانت عمارةُ هذه القرى بدائيةً إما من صنعِ السكان أنفسهم، أو نتيجةَ مشاركةٍ مباشرةٍ مع البنائين؛ في كلتا الحالتين، هذا عنى أن العمارةَ كانت مصممةً وفقًا لرغباتِ السكانِ وقدراتهم الاقتصادية. لم تكن لهذه الإنشاءاتِ البسيطةِ والدوافع المتواضعة للبناءِ أيُّ غايةٍ “للسيطرة على الطبيعة” أو التغلبِ عليها ومنافستها، فقد كان البناؤونَ والسكانُ يشيدونها ضمن قدراتهم التقنيةِ البسيطةِ بتوافقيّةٍ مع ما يوفرهُ المكان. تتجلّى هذه السياقيةُ العالية، سواء بالمعنى الماديِ أو غير المادي، بشكلٍ رئيسيٍ عندما تموتُ هذهِ العمارة؛ حيث تتدهورُ مرةً أخرى إلى حالةِ المهدِ، فتعودُ حجارةً مرةً أخرى، محتفظةً بإمكانيةِ أن تكونَ مكوناتٍ لحياةٍ أخرى في المستقبل (مادة بناء طبيعية). إنّ هذه النظرةُ إلى العمارةِ باعتبارها بناءً حيًا يأوي الحياةَ ويرعاها، ويمكنُ إنزالها من الحياةِ (من مسرح الحياة)، دون أن تُثقلها أيةُ التزاماتٍ نفعية، تتحدّى مفهومَ “الفناء الحتمي” وتفتحُ مجموعةً من المفارقاتِ حيثُ يمكنُ للتدهورِ المعماري، والهدمِ، والإهدارِ، وإعادةِ الاستخدامِ والإحياءِ أن يشكلَ التصميمَ الوظيفيِ للمبنى ومتانتهِ المادية، وتؤثرُ بالتالي على نشأتهِ الإبداعيةِ والجمالية؛ وكيف يمكن لهذهِ العوامل معاً أن تحوّلَ القلقَ من فناء العمارةِ إلى مصدرٍ للإبداع؛ وكيف، من خلالِ الموتِ، لا نجلبُ العمارةَ إلى نهايتها فحسب، بل نتعاملُ معها باعتبارها حافزاً لصمودها الدائم.
الشكل 20. في لحظة نشأتها ترتبط العمارة بالحاضر بطريقة خاصة جدًا. فهي تعكس روح الذي بناها وتقدم إجاباتها الخاصة على أسئلة عصرها من خلال شكلها ووظيفتها الظاهرة، وعلاقتها بالعمائر الأخرى، والمكان الذي تقع فيه. يتفاخر المعماريون أحيانًا بمهاراتهم في التعبير عن البيئة المبنية، لدرجة أنهم في بعض الأحيان يستبعدون إمكانات السياق، سواء كان مجتمعياً أو مادياً. تتكشف العمارة في الحياة كما تتكشف الزهرة وفقًا لقوانين الطبيعة محافظة على البنية الطبيعية المتأصلة، لتتكشّفَ وفقًا لقوانين المجتمعات والسياق محافظة على بنيويتهم الكامنة. بالنسبة للمجتمعات التقليدية، لم يُنظر إلى العمارة أبدًا على أنها مبنى مكتمل، أو بناء قائم بذاته. العمارة، في أي لحظة معينة من حياتها، كانت مبنى غير مكتمل ينتظر الانتهاء منه إما من قبل الطبيعة أو السياق أو العمارة الأخرى، لتكتمل بهم جميعاً. حتى عندما تكتمل بكل ما سبق ذكره، فلا تعتبر مكتملة بعد، فسكانها يعتبرونها عملية مستمرة من تحسين مساحاتهم المعيشية واستيعاب حاجاتهم للتوسع، والاستجابة لمتغيراتهم الاقتصادية أو لرغبتهم في تحسين مساحتهم المبنية، أو حتى حباً للذكريات التي احتضنتها ذات يوم وما زالت تحتضنها. بالتالي، فإن هذه الغرفة التي نراها في الصورة ستكون بلا زخمٍ إن تمت قراءتها بدون سياقاتها المادية وغير المادية، لتقع في غياهب اللامعنى. لذلك، عندما تُقرأ جنبًا إلى جنب مع الكهف الذي تحتها الذي يشكل قاعدة لها، ومع العمائر المجاورة التي تحيطها ورؤية الساكن فيها، فإنها تتكشف بمعانٍ أعمق لا يمكن تزييفها أو تصنعها: فعاليات الحياة المتفاعلة مع معاني الحياة. تم التقاط الصورة في قرية السماكية في تاريخ 03/03/2019
المراجع:
1 Ammar Khammash, Notes on Village Architecture in Jordan(Lafayette, La.: Univ of Washington Pr, 1988): 21
2 Structure Preserving: Is a term introduced by Christopher Alexander to define a growth that is gradual, smooth and natural. It is a system where any buildup is based on what is already existing, it preserves and strengthens existing symmetries without altering the structure of the system. It grants new configurations to emerge from the existing context. (Alexander, 2004)
3 Aldo Rossi, A Scientific Autobiography, Reprint (Cambridge, Mass.; London: MIT Press, 2010): 12
4 Peter Zumthor, Mari Lending, and Hélène Binet, A Feeling of History, 1st ed. (Zürich: Scheidegger Spiess, 2018): 10, 20
5 Stephen (Programme Director Future Cities Laboratory) Cairns and Jane M. (Professor of Urban Studies Yale-NUS College) Jacobs, Buildings Must Die: A Perverse View of Architecture, Reprint (Place of publication not identified: MIT Press Ltd, 2017): 3
Photo Credit: Laith Matarweh