الحداثة ومسألة الهوية في العمارة
دكتور ايلي حداد
المشروع الحداثي في العمارة
إقترنت الحداثة في العمارة بمشروع تطوير المجتمع وتحسين ظروف العيش والسكن فيه وخاصة للطبقة العاملة مما أضفى على معظم المعماريين الاوروبيين الحاملين لواء الحداثة في أوائل القرن العشرين نزعة “إشتراكية”، وهذا ما يفسّر الحملة المضادة التي واجهتها العمارة الحداثية في المانيا بعد وصول النازيين الى السلطة، وهي من أهم الدول التي أخذ التحوّل المعماري فيها بعداً واسعاً من مشاريع المساكن الشعبية الى المجمعات الصناعية والمدن الجديدة. هذا المنحى الحداثي تم ترجمته شكليّاً بالاتجاه نحو الاشكال المجردة من أية زخرفة وإستعمال المكننة في عملية البناء، بهدف الوصول الى عمارة صناعية يمكن من خلالها تلبية إحتياجات المدن الكبرى والتزايد السكاني فيها.
كان من الطبيعي أن يواجه النازيون هذه التطورات في المانيا، فالصبغة الاشتراكية إلتصقت بهذا المشروع الحداثي منذ البداية وكان من مظاهره إعطاء صورة جديدة للهوية الالمانية تستبدل الصورة التقليدية المرتبطة بفكرة “الوطن” ليحلّ محلها نموذج لا يرتكز على مفاهيم الهوية والتراث، بل يتعدّاها للتعبير عن حالة عابرة للأوطان. هذا الرفض للنموذج الحداثي من قبل السلطات الرسمية تم التعبير عنه بشكل واضح بعد نجاح المعماري ميز فان ديرو بتنظيم أول معرض للسكن الحديث في إحدى ضواحي شتوتغارت عام 1927، وهو كناية عن مجموعة مساكن خاصة صممتها نخبة من المعماريين الاوروبيين. بالطبع كانت أكثرية هذه المجموعة من المعماريين الالمان إضافة الى عدد قليل من الاجانب ومنهم لوكوربوزيه، وضع كل واحد منهم تصميماً لمنازل نموذجية ضمن المخطط العام الذي وضعه ميز فان ديرو على التلة المعروفة بإسم “وايسنهوف”، ضمن شروط محددة ومنها عدم إستعمال المواد التقليدية أو سقف القرميد. أتت ردة الفعل قوية على هذا الطرح الجديد للسكن نظراً لتأثيره المباشر على مسألة الهوية الالمانية، فتبارى المحافظون من معماريين ونقاد في مهاجمة هذا المشروع ووصفه بالمستورد أو “الغريب” عن الواقع الالماني، بتجاهله لمسألة التراث المعماري وطبيعة الارض والمناخ فيها.
معضلة العمارة بين الحداثة والتراث
هكذا، ومنذ البداية، واجه المشروع التحديثي في العمارة مشكلة التعاطي مع التراث المحلي، المرتبط بالطبع بمسألة الهوية وخصوصية المكان، وإن أخذت في بعض الاحيان طابعاً محافظاً أو عنصرياً، إلا أن هذه العلاقة الجدلية عادت الى الظهور مع بعض الحداثيين الذين حاولوا معالجة هذه المسألة، عبر إختبارات تمزج بين المنهجية العملانية من جهة، والحرفية التقليدية من جهة أخرى. تطورت هذه الاختبارات في النصف الثاني من القرن العشرين، حيث برزت إتجاهات معمارية في عدد من الدول في إسكاندنافيا وأميركا الجنوبية والهند والمكسيك، حاولت التوفيق بين الحداثة وبين التراث والهوية المحلية.
يتفق الباحثون على أن الفلندي آلفار آلتو كان من أوائل الذين تركوا “الاورثوذكسية المعمارية” ليحاولوا الوصول الى عمارة أكثر ملاءمة للمكان وإندماجاً بالطبيعة، وذلك من خلال إستعمال المواد الطبيعية مثل الحجر والخشب إضافة الى المواد الصناعية مثل الباطون المسلح والحديد. وتعد فيلا مايريا في فنلندا من أولى أعماله التي تتسم بهذا الطابع، والتي تشكل النقيض الايديولوجي لفيلا سافوا التي صممها لوكوربوزيه على الأسس الحداثية الاولى. هنا نجد منزلاً يندمج في الطبيعة من حيث المخطط الذي يبدو وكأنه ينمو في الارض كما من خلال تعدد المواد المستعملة، ومنها الخشب والسيراميك والقرميد التي تشترك كلها في صياغة المبنى من دون أفكار مسبقة عن نهائية الشكل أو الكمالية في التصميم، ليبدو وكأنه في النتيجة تكملة للطبيعة المحيطة به. ندخل الى فيلا مايريا تحت سقف مستدير الشكل لنجد أنفسنا داخل منزل دافىء الالوان مكوّن من جدران القرميد المطلية باللون الابيض ومن السقف الملبس بالخشب الذي يعطي هذا “الداخل” طابعه المميز. لا يغيب عن الزائر إستعمال قوائم الخشب المستديرة كعازل نسبي يحجب الدرج ويشكل احدى ترجمات آلتو الانطباعية للطبيعة، وتحديداً الغابات الفنلندية التي يستوحي منها “الجو العام”. نجح آلتو في هذا المنزل في تجنب العودة الى الغرف المعزولة عن بعضها التي تميز العمارة التقليدية كما ترك جانباً فكرة “المساحة الحرة” التي طبعت العمارة الحداثية.
الحداثة والهوية في لبنان
إن مسألة العمارة الحداثية في لبنان إقترنت منذ البداية بمبدأ “التسوية”، كما نرى مثلاً في أعمال المؤسسين من أمثال أنطون تابت وفريد طراد ورودولف الياس، والتي حاولت التوفيق بين المزاج العام وتقاليد البناء المحلية وبين الروح الحداثية المطلقة التي هبّت رياحها في الغرب. فلم تظهر مفاعيل الحداثة في لبنان، بنظرتها المجردة الى الاشياء وإستعمالها للمواد المجرّدة من أي زخرفة أو طلاء، إلا بعد الحرب العالمية الثانية، وبالاخص في فترة الستينات، حيث بدأت تظهر عمارة تستوحي أشكالها من أعمال غروبيوس، دودوك ولوكوربوزيه، والبعض منها تميزت باستعمال الباطون المسّلح على طبيعته، ومن أبرز حاملي هذه الراية الحداثية خليل خوري وراوول فرني وبيار خوري وجاك ليجي بيلير. في الوقت ذاته ظهرت إتجاهات تسعى الى التوفيق بين العمارة الحداثية وخصوصية المكان والتراث والتقاليد المعمارية، ولعل أبرز وجوه هذا التيار جاك ليجي بيلير الذي عرف ايضاً بأبحاثه عن العمارة التقليدية في لبنان. فالبرغم من إنضوائه ضمن لواء الحداثة ووضعه المشاريع ذات الطابع المجرد مثل مدرسة الناصرة في الاشرفية (1962) (صورة5 ) الواضح تأثرها بأعمال لوكوربوزيه، فإن ليجي بيلير كان في الوقت نفسه يقوم بإختبارات أكثر انسجاماً مع التراث المحلي مثل منزل النقاش (1970) حيث إستعمل الحجر الطبيعي في إنشاء الحيطان الخارجية، والكل حسب مخطط “عضوي” لا يلتزم بهندسة الخطوط المستقيمة (صورة 6 ). تابع ليجي بيلير تجاربه هذه في بعض مشاريعه الاخيرة مثل فيلا عقاد في دير القمر (2000) حيث استطاع صياغة عمل يقتبس بعض عناصره من العمارة التقليدية دون نسخ أشكالها التقليدية، مثل العقد أو القنطرة، وإنما بإرتكازه على “روحية المكان” التي يستشفها من خلال توزيع أقسام المبنى بتناغم مع الطبيعة. (صورة7 )
في بعض أعمال بيار الخوري نجد أيضاً هذا الاحساس بخصوصية المكان حيث يلجأ المعماري الى إستقصاء ميزات الموقع كمدخل أساسي لوضع تصميم هندسي يأتي كتكملة طبيعية له وليس كـ “شيء” غريب ومستقل يفرض على الموقع الذي يوضع فيه. هذا ما نجده في فيلا أبو خير في طبرجا (1964) حيث يتشكل المنزل من حائط إرتكاز من الحجر يؤسس للمنظومة التي ترتب صياغة المنزل فتختفي وراء هذا الحائط الأساسي الوظائف الثانوية فيما تمتد من أمامه الصالة الكبرى المطلة على الحديقة التي تطل بدورها على البحر. هكذا وبكل بساطة يتشكل المنزل من بضعة خطوط تندمج في المكان ويتم تنظيم الوظائف حولها، وهي تذكرنا بموادها الطبيعية بالعمارة التقليدية دون التقيّد بأشكالها التي لم يعد لها أي مبرر تقني أو معماري.
ايضاَ ضمن هذا السياق يمكننا قراءة أعمال المعماري عاصم سلام الذي كان من رواد البحث عن القاسم المشترك بين العمارة الحداثية وخصوصية المكان وهويته العربية بنحو خاص، ومن أعماله جامع الخاشقجي (1973) في بيروت الذي إرتكز على مخطط النجمة المربعة ذات الزوايا الثمانية فيما حافظ على تفصيل القطع المعمارية من الحائط الحجري الرملي والهيكل الباطوني الى السقف (صورة10-11 ). وبالرغم من كون هذا البناء حداثياً بإمتياز إلا أنه أيضاً مطبوع ببعض المزايا الخاصة التي تؤسس لقراءة معاصرة للتراث الاسلامي دون الانجرار وراء التقليد ونسخ الاشكال القديمة، وهو بهذا الاتجاه يذكرنا بأعمال المعماري الاميركي لويس كان، مصمم مبنى البرلمان في داكا.
نموذج آخر عن عمارة حداثية تتفاعل مع خصوصية المكان نجده في أعمال راوول فيرني وخاصة في كنيسة فقرا (1983) التي تعود الى أصول الكنيسة في الجبل اللبناني وهي عمارة بسيطة مربعة الشكل خالية من التفاصيل والفذلكات المعاصرة. هنا يزاوج فيرني بين الهيكل الباطوني والجدران المرصوفة بالحجر الصخري ليعيد صياغة هذه الكنيسة التي تختلف عن سابقاتها التاريخية بمدخلها المفرزعند إحدى زوايا المربع الذي يؤدي الى محور داخلي ينتهي عند المذبح في الزاوية الاخرى. هنا أيضاً نجد هذا التزاوج بين الحداثة والتراث، بين التيبولوجيا التقليدية والعناصر الجديدة التي تؤدي الى عمارة تستوعب هذه التيبولوجيا وتعيد بلورتها في أطر جديدة.
ما – بعد الحداثة: عمارة الصورة والواقع الخيالي
كما كان الحداثيون من الجيل الاول والثاني في لبنان يحاولون تطبيق الافكار التي كانت تسود الثقافة المعمارية الحداثية، لكن دون الطموح ربما الى تطويع هذه العمارة ضمن مشروع إجتماعي ـ سياسي يهدف الى تغيير المجتمع، كذلك يحاول زملاؤهم المعاصرون لعب الدور ذاته في ما يخص العمارة المعاصرة. لكن هذه العمارة المعاصرة تبدو وكأنها محكومة بنظام “الصورة” وبإبتكار واقع جديد تغلب عليه مصطلحات جديدة أهمها “الواقع الافتراضي”، فيصبح “المشروع المعماري” كناية عن مشروع إبتكاري صرف معدّ للتسويق كسلعة إستهلاكية، تغيب عنه الاهتمامات الاجتماعية والسياسية، وحتى البيئية. هنا تظهر بعض المحاولات اليائسة للتأقلم مع المكان من خلال إعادة نسخ لنماذج معمارية تاريخية يتم لصق أشكالها على الهيكل المعماري دون أن يكون لها دور إنشائي في تكوين البناء، الغاية منها صياغة مفهوم مزيّف للتراث لا صلة له بالواقع. في المقابل يواجه هذا الاتجاه التزويري للتراث إتجاه معاصر يمكن وصفه بـ “الانتفاضة المعمارية”، يتحدى الواقع من خلال الاختلاف الجذري معه ومع نسيجه التاريخي معيداً إنتاج تجربة “الطلائع الفنية” في أوائل القرن العشرين، لكن مجرّداً من المشروع السياسي والاجتماعي الذي إقترن بتلك التجارب الريادية السابقة. وتبدو هذه الاتجاهات المضادة أكثر فأكثر كوجهان لعملة واحدة، تفتقد الى مفهوم واضح للحداثة والتراث ولكيفية التوفيق بينهما.
قائمة الصور:
- وايسنهوف: القرية النموذجية الحداثية.
- بالكريشنا دوشي. صانغات، أحمد آباد، الهند.
- الفار آلتو. فيلا مايريا، فنلندا.
- الفار آلتو. فيلا مايريا، فنلندا.
- جاك ليجي بيلير. مدرسة الناصرة.
- جاك ليجي بيلير. منزل النقاش.
- جاك ليجي بيلير. فيلا عقاد.
- بيار الخوري. فيلا أبو خير.
- بيار الخوري. فيلا أبو خير.
- عاصم سلام. جامع الخاشقجي.
- عاصم سلام. جامع الخاشقجي.
- راوول فيرني. كنيسة فقرا.