يورن اوتزن, والعمارة الاسلامية
دكتور خالد السلطاني
في خضم النقاش متنوع الاتجاهات الدائر الان في اوساط عالمية مختلفة ، حول تأثير الحضارات بعضها في البعض الاخر ، وعن مدى اهمية هذا الحدث وتجليلته المتعددة وابعاد تأثيراته على تطور منجزات الثقافة المحلية او الاقليمية ، يظل مسعى ادراك ومعرفة وفهم ” الاخر ” الشخصي ، يمثل صوتا واضحا وجليا في خطاب ذلك النقاش الذي تشعبت به الطرق ، وتباينت به التقيمات من القبول المطلق وحتى الرفض المطلق !
ومع اقرارنا بتنوع ” فرشة ” مرام واهداف ” الاخر ” في عملية تلاقي الحضارات ، وتصادمها احيانا ؛ فان من حسن الصدف ان يكون ” الاخر ” – معماراً ، يتوق بصدق لادراك كنه وجوهر ” اخره ” بتجرد واضح ، خالٍ تماما من نزعة الالغاءات المقيتة والتىجبل عليها بعض ” الاخرين ” ، ومتوخيا ، في ذات الوقت الى اثراء تجربته المهنية والشخصية.
وليس من دون دلالة ، اعتبار كثير من المنجزات المعمارية التى صممها ” الاخرون ” في بيئات مختلفة وغريبة عن مرجعياتهم الثقافية ، بمثابة رموز مميزة و “ايقونات ” بصرية لذلك البلد او لتلك الثقافة ؛ والسبب واضح جدا ً، كون ان عملية التصميم استندت على احترام صادق للثقافة ” الاخرية ” ؛ ولكون ان تلك العملية ذاتها اتكأت على مفهوم التأويل ، المفهوم الذي بمقدوره ان ينشأ ” تـناصاً ” غنياً ، يكفل استيلاد ” فورمات ” جديدة تشي بتكويناتها عن خصوصية مرجعياتها الثقافية.
حدثني البروفيسور “هانس مونيك هانسين ” ، صديق “يورن اوتزن ” وزميله في العمل ، من ان المعمار الدانمركي كان مبتهجا ، ايما ابتهاج ، لمشهد التماثلات التى تأسست بين مقطع مبنى ” بنك ملي ايران ” ، الذي صممه ” اوتزن ” في العاصمة طهران عام 1959 ، وبين شكل الحروف العربية الانسيابية المتصلة ؛ فقد كان المعمار ينزع الى اظهار نوع من التماهي ” الفورماتـي ” بين ما يمكن ان تكون عليه تكوينات مبنى معاصر ، وبين الرغبة في حضور تداعيات ثقافية يود المصمم ان يعلن عن اعجابه وافتنانه بها !
وفي حينها اثارني ليس مشهد مقطع المبنى المركب وهيئة السقوف الصفيحية مختلفة الاشكال ، وتطابقاتها مع اشكال الحروف العربية الصاعدة والنازلة ، بقدر ما ترمي اليه فكرة الحدث المرئي ، الحدث الذي مكن المعمار ليجعل منه مقاربة مميّزة ، تستدعي بدلالاتها مقدار افتتنان المعمار بجديده ، ذلك الجديد ( والغريب ) الذي اسهم في اثراء مخيلتة التصميمية . وفي الاحوال كافة ، فان اشكالية استنطاق الموروث التى حاول المعمار ان يثير انتباهنا اليها ، ما فتئت قائمة ،انه يطرح علينا درسا بليغا في كيفية انتـقاء الاسئلة ، اكثر بكثير من السعي للحصول على محض اجوبة ، قد تكون في كثير من الاحيان ، ليس سوى اجوبة جاهزة!
عندما زرت منطقة ” فغيـذينسبو Fredensborg ” في اقصى الشمال الشرقي من الدانمرك لرؤية الحي السكني الذي اعد تصاميمه يورن اوتزن ، ونفذ في بداية الستينات ( 1962 ) ، ادركت بعمق مدى تعاطي المصمم العالمي لجهة توظيف موروث الحضارات المتنوعة المولع بها ” اوتزن ” في العملية التصميمية . لا يمكن للمرء ان يقّر بان مقاربات التخطيط والتصميم والانشاء ، هي مقاربات محض دانمركية ، او في احسن الاحوال اسكندينافية ؛ انها يمكن ان تكون تمازجاً ذكياً وعقلانياً لثقافات متباينة ، تعود بمرجعيتها الى حضارات عديدة ، منها بالطبع مرجعية العمارة الاسلامية . فمن الصعب بمكان انكار نوعية اسلوب تسقيط الوحدات السكنية وطريقة” فرشها ” في الموقع ، عن ما كان يشكل حلاً عاديا ومألوفاً في تخطيط عمراني لمدينة عربية –اسلامية.
من جانب آخر ، يشعر المرء ، <او بالاحرى احسست ، أنا المشرقي ، شخصياً >؛ بان تعاطي المعمار مع تصاميم الوحدة السكنية المعتمد على تكوين حضور الباحة المكشوفة ، ما هو الا ايماءة شغف واحترام لموروث العمارة الاسلامية الممّيز ، فالحدث التصميمي عدا كونه غير مألوف في تطبيقات العمارة الاسكندينافية ،لا يوحي حتى الى اسلوب ” الباثيو ” Patio ، المعالجة التصميمية القريبة جداً من نماذج تطبيقات العمارة الاسلامية ، والتى شاع استخدامها في بلدان جنوبية عديدة .
وتظل هيئات المفردات التصميمية الاساسية المؤلفة للحل التكويني كالجدران المصمتة ، والفتحات الخارجية المقـنّـنة ، والنزوع للهندسية المنطوية على تأثيرات نحتية ، وكذلك اسلوب توزيع الفراغات للوحدة السكنية ، وحتى لون الآجر الضارب الى الصفرة ، كلها تذكرنا بان المعمار يستقي معالجلته التكوينية من منبع ، لا يمكن للمرء أن يتغاضى عن مصدره ! . وتمنح الكتل الآجرية التى تشكلها بوناراما الوحدات السكنية المبثوثة بفنية عالية على تضاريس الموقع ، وخطوط ” سلويّـتها silhouette ” المتعرجة ، احساساً بان الحدث المنظور يضيف شيئا جديداً ونافعاً لمفردات البيئة المبنية الاقليمية ؛ ولولا غياب تقاليد استخدام الالوان ، وبالاخص الفيروزي منها ، في المعالجات التصميمية ؛ فان حيّ ” فريذينسبو ” الاسكاني ، وقبله حيّ ” كونغو” (1957 ) ، بالقرب من مدينة ” هلسنينيور ” ، يمكنا ان يكونا بسهولة ، حياً سكنياً في احدى ضواحي بغداد او في اصفهان ، وحتى ضمن احياء بخارى او مراكش. فهو يشتغل على ثيمته المفضلة ، في جعل مقاربة تمازج الثقافات اساسا للحل التكويني ، مبيناً ، بحضور لافت ، عمل مبادئ العمارة الاسلامية في تكوينات مبناه .
في محاولة استنطاقنا لبعض مشاريع ” يورن اوتزن ” المعمارية ، حاولنا التركيز على جانب احادي ضمن جوانب عديدة ، تعمل جميعها ، بصورة مركبة ومتداخلة لتفضي اخيراً الى استيلاد الهيئة النهائية لمنجز عمارته ، و الخروج في النهاية الى صيغ تصميمية مقنعة ومعبرة ، ومن ضمن هذه الجوانب ما يمكن ان تقوم به العمارة الاسلامية من عملٍ مجدٍ في صياغة تكوينات فضائية – فنية بليغة. لكننا ينبغي ان نشير هنا ، اولاً ، بان مفهوم العمارة الاسلامية كما يفهمه ” اوتزن ” –هو مفهوم خاص ، يعتمد اساساً على التأويل ؛ تأويل منجز هذه العمارة الرفيعة ، من وجة نظر خاصة .والامر الآخر ، ان طروحات مقاربة تمازج الثقافات الذي يفضله المعمار في عمله ، يمكن له ان يفضي الى خلق هيئات تشكيلية مميّزة ، بمقدور الذاكرة حفظها بسهولة ، كما يمكن لها بيسر اعادة استذكار ” فورماتها ” البصرية !
يعيش ” يورن اوتزن ” الان ، في ميوركا Mallorca / اسبانيا ؛ في دارة صممها لنفسه ولعائلته ، بالقرب من البحر ؛ البحر الذي كان دوما مكاناً مفضلا لديه للسكن بالقرب منه . يعطي اسلوب توزيع فراغات الدارة مناسبة للتذكير مرة اخرى ، عن توق المعمار لتأكيد القيم التكوينية التى يفضلها ؛ فالتوزيع الفراغي يشي بمعالجة تصميمية ، يدرك مرجعيتها جيداً اولئك المهتمين حقيقة بقيمة العمارة وتجلياتها الاقليمية ، لكن المعمار مع هذا ، يود ان يعلن صراحة عن تعاطفه وحبه واحترامه لقيم معمارية وثقافية بعينها ؛ واذ كان رسم < هلال > كبير ، محفور في حائط مدخل الدارة يفصح عن “.. اشعار رقيق لمنظر الضوء الساطع الاتي من السماء والبحر ..” كما يزعم احد النقاد ؛ فاننا نتلمس فيه ، ايضا ، اقرارا بليغا وفصيحا لتعاطف المعمار مع منجز .. العمارة الاسلامية !